قصص قصيرة - آخر رجال الموهيكان

 




آخر رجال الموهيكان

 

سار حاملا حقيبته السوداء المهترئة على كتفه، قد حشر فيها ثيابه، وفي اليد الأخرى حقيبة بعجلات تضم عدة الصوت وآلاته الموسيقية.

شق الشارع المزدحم بالمارة وقت الذروة، في يوم خريفي بارد لم تبخل عليه شمس كاليفورنيا ببعض أشعتها

وصل أخيرا إلى بوابة الحديقة العامة، تواجهها بعض المحال التجارية ومكتبة ضخمة وبجانبها مقهى أنيق تفوح منه رائحة القهوة اللذيذة والمخبوزات الساخنة، راودته نفسه بالدخول إلى المقهى، لكنه يعلم جيدا أنه لا يملك ثمن شريحة خبز واحدة.

دخل إلى الحديقة وأنعطف إلى ساحة قريبة من البوابة، تتوسطها بركة ماء، تحفها التماثيل ومساكب الورد.

حط رحاله وبدأ بتجهيز مسرحه الصغير، أشعل بعض المصابيح الحمراء، ونصب حاملا علق عليه قطع من نسيج ملون مزين بأذناب الثعالب البرية والسناجب، وبعض الريش والصدف والتي كان أسلافه من الهنود الحمر يعلقونها على أكواخهم وخيامهم للزينة ولأسباب دينية.

ثم أوصل أجهزته الصوتية ببعضها، وأخرج نايه الخشبي وصفارته، وكتلتان من الأصداف المربوطة. ووضعها على رقعة ملونة على الأرض، وأمامها سلة فارغة من الخيزران تفصل بينه وبين المارة.

خلع سترته وقميصه واكتفى بسروال من الجلد تتدلى منه الشرائط، وربط على معصميه وعضديه حبال منسوجة من خيوط ملونة متقنة الصنع، وتقلد بسلسلة من النحاس تتدلى منها القطع النحاسية المختلفة الأحجام، ترك شعره الطويل الأسود مسدلاً خلف ظهره، وربط على رأسه عصابة تزينها قطعه نحاسية مزخرفة من الأمام، وطوقا من الريش الأبيض والأحمر من الخلف، أخرج علبة الألوان، وبدأ باللون الأسود على الجبهة والعينين، ثم الأبيض فالأحمر حتى أعلى الفك.

عندما أصبح كل شيء معد، وحينما بدأت تلك التجهيزات تلفت أنظار المارة وزوار الحديقة، أدار جهاز الصوت، فانطلقت منه نغمات إيقاع، تشبه الضرب على الطبول الجلدية، تلك التي كان الهنود الحمر يضربونها بعد موسم الحصاد الوفير، أو الصيد العظيم، وقبل الحرب على وجه الخصوص.

جثا على ركبتيه في خشوع  وسكينة وكأنه يقوم بأحد الطقوس الدينية، قرب الناي الخشبي من شفتيه، وضرب بركبته اليمنى على الأرض، ارتعشت عضلات بطنه الضامر، وانطلقت أنغام الناي العذبة، بلحن ألوان الرياح، شقت أصوات الطبول التي خفتت لذلك الصوت، تجمع الناس أكثر، أما صاحبنا فقد أغمض عينيه وسافر قلبه مع أنغام الناي إلى البعيد، يمتطي جوادا أدهم بلا سرج ولا لجام، ويحمل في يده حربة، ويطارد قطعان البيسون العملاقة في السهول العظمى من جبال روكي، فيظفر بأحدها وقد أغمد الحربة في ظهره، وبعد عدة ضربات يتمدد الحيوان الضخم  على الأرض صريعا، فيهتف أفراد القبيلة للبطل، وتسرع النساء لتقطيع الحيوان وتجزئته، وتحتفل القبيلة بهذا الصيد العظيم، ويعطى البطل لقبا مشرفا، ويعلق على صدره ذيل الحيوان شاهدا على شجاعته وبطولته.

في هذه اللحظة يخرج صاحبنا العازف صفارة فينطلق صوت كصوت الكندور الذي يحلق على قمم الجبال، يتجه إلى الأنديز، يرقب فتيات سمراوات، تنسدل ضفائرهن الناعمة على أكتافهن وتزين رؤوسهن أكاليل الذهب، يحملن الجرار الملونة، والسلال المليئة بالذرة الذهبية، والبطاطا، وشتى الحبوب، يتمهلن عند النهر ويتراشقن بالماء قبل أن يصلن إلى المدن الحصينة عالية الأسوار، وفي ساحاتها تجمع شعب الإنكا يرقصون (رقصة الشمس)، لكن الشمس غابت عن تلك الديار  فدكت حصونهم مدفعية الرجل الأبيض.

عاد صاحبنا العازف يخشخش بالصدف المربوط بكلتا يديه، ويصدر غناء حزيناً بلغة الهنود الحمر هو أشبه بالنحيب، وكأنه يبكي على أخر رجال الموهيكان (1)

ثم يطلق صفير الكندور وينفخ في نايه بلحن شجي، يطير قلبه مع الكندور الذي يرقب آلافا من أفراد قبائل الشيروكي يقطعون مئات الكيلومترات سيراً على الأقدام، تدفعهم ميليشيات الرجل الأبيض التي استحلت دماءهم، لترك أراضيهم وبيوتهم وموطن أجدادهم في الجنوب، والنزوح نحو الغرب للاستقرار في محميات مكشوفة، لتفقد تلك القبائل ربع أفرادها على (درب الدموع)، يتساقطون أمام أعين الكندور من الجوع و البرد والمرض.

انتهت الوصلة، صفق الحضور بحرارة، أخفض راسه في تواضع، توالت القطع النقدية التي تلقى في السلة أمامه، لكنه لم يرفع رأسه، فقد كان رنين القطع النقدية ينال من كرامة هذا الهندي الأصيل، الذي لم يجد سبيلا للعيش سوى أن يستجدي على أرض أجداده.

غادر الحضور، وصاحبنا العازف مازال مطرقا، لكنه أحس بعينين ترقبه، على يمينه شخص لم يغادر بعد، توجس خيفة، وساوره القلق، ربما يكون لصا يسرق السلة، أو وغدا يعتدي عليه.

رفع رأسه وألتفت إلى الواقف، مقضبا، محذرا، عاقدا حاجبيه، وإذا به فتًى أشقر بعينين زرقاوان، يرتدي قبعة النادل وقميصا رسم عليه شعار المقهى المجاور، وفي يده كوبا ورقيا ولفافة، اقترب من صاحبنا العازف، وقال مبتسما: أحسنت لقد أسعدتنا اليوم بعزفك الجميل، أرجو أن تقبل منا هذه الهدية البسيطة، كوبا من القهوة، وقطعة من خبزنا المحلى.

 

الموهيكان قبيلة من قبائل سكان أمريكا الأصليين (الهنود الحمر)، تم إبادتها وتبقى منهم رجل واحد.

آخر رجال الموهيكان هو اسم رواية للكاتب جيمس كوبر

 

 

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فلم فضيلة أن تكون لا أحد

قراءة في كتاب (رد قلبي) للشاعر مصعب العمودي

قراءة في نص : من كل وادٍ عصا للأديب إبراهيم يوسف